الأحد، 20 نوفمبر 2016

ما الذي يستطيع ترامب فعله؟




ماذا لو حكم أميركا رجل مجنون أو غشيم، وليس مجرد دونالد ترامب؟ فما الذي يستطيع فعله؟
أستاذنا في السياسة الدولية كينيث والتز الذي توفي عام 2013 لديه إجابة عن هذا السؤال.
في كتابه الكلاسيكي المنشور عام 1959 الموسوم «الإنسان والدولة والحرب»، يطرح والتز ثلاث صور لفهم أزمة السياسة العالمية فيما يخص الحروب، فهناك من الفلاسفة من يرى أن طبيعة الإنسان هي مصدر كل الشرور في العالم، وأن الإنسان هو المحرك الأساسي للأحداث، فإذا كان الأمر كذلك فيكون دونالد ترامب ذا أهمية بالغة في تحريك سياسات أميركا تجاه بقية العالم، لكن هذه النظرة محدودة للغاية في ظل تطور الدولة الحديثة وأدواتها وبنيتها الداخلية، فالفرد الواحد ليس هو اللاعب الأساسي في السياسات المحلية أو الدولية لأي دولة، وليست أميركا وحدها.
مع تطور الدولة الحديثة داخليًا وترتيب النظام العالمي على أنه نظام دول ذات سيادة، أصبحت الدولة ومؤسساتها هي اللاعب الحقيقي وتراجع دور الإنسان أو رأس الدولة، حيث نظمت الدول داخليًا، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية إلى نظام توزع فيه القوة في المجتمع، بحيث لا يسمح لفرد أو حتى جناح من مؤسسات الدولة بالانفراد بالقرار، وأسس لتوازن السلطات بين الرئيس والكونغرس والقضاء، وجاء الإعلام سلطة رابعة ليتابع مدى دقة وتنفيذ توازن السلطات هذا، بحيث لا تحيد سلطة عن الأخرى.
الصورة الأخرى للسياسة ترى أن الدولة وأجهزتها هي المسؤول الأول عن الحرب وعن الشرور، وكذلك أيضًا عن السلم والاستقرار، ويأتي دور الفرد الذي هو على رأس تلك الدولة تابعًا، ومن هنا ظهرت نظرية السلام الديمقراطي، إذ إن طبيعة الدولة هي التي تحدد مدى استخدام قوتها الغاشمة ضد دول أخرى، وإن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضًا، وأضف إليها أن الدول النووية لا تتعارك أيضًا، ومن هنا تكون ورطة ترامب ضد بوتين في سوريا مثلاً، فمهما أراد ترامب، فأميركا لن تدخل حربًا مع روسيا. وحسب نظرية السلام الديمقراطي ومعها النووي، فإن الديكتاتوريات هي التي تورط العالم في الحروب، عراق صدام حسين مثالاً.
الدولة، وليس الفرد، هي التي تحدد ملامح السياسات، وبهذا يكون دونالد ترامب محدودًا فيما يستطيع أن يفعله، في ظل دولة أميركية مركبة بطريقة توازن السلطات وحدود صلاحيات الرئيس في أن يأخذها في أي اتجاه.
أما الصورة الثالثة التي لا تحدد فقط ما يستطيع فعله الإنسان أو القائد أو دونالد ترامب أو غيره من القادة، حسب نظرية كينيث والتز، فهي طبيعة النظام الدولي المبني على الفوضى، الذي يفرض على الدول أن تتصرف من أجل البقاء وبدافع مصلحتها فقط دونما مراعاة لمصلحة الغير، وهذا ما يسمى نظام «ساعد نفسك» (self help system)، حيث تكون حالة الفوضى العالمية محكومة بعلاقات القوى فقط لا غير، بمعنى أن الدول القوية هي التي تحدد طبيعة النظام العالمي، ولذلك كانت طبيعة النظام العالمي أثناء الحرب الباردة مثلاً وثنائية القطبية مختلفة عن طبيعة النظام العالمي في ظل سيطرة الولايات المتحدة الأميركية أو نظام القطب الواحد، وها نحن نتجه إلى نظام متعدد القطبية في ظل بروز الصين كقوة عالمية، أو على الأقل متعدد القطبية اقتصاديًا، وأحادي القطبية عسكريًا، في ظل هذا النظام تبقى أميركا كدولة ودونالد ترامب كرئيس محدودي القدرات فيما يستطيعان فعله في ظل نظام دولي تتغير طبيعته كل يوم.
إذن الإجابة عن سؤال طبيعة الرئيس الأميركي وقدراته في التأثير على قضايا الحرب والسلام محدودة بما تتيح له الدولة الأميركية داخليًا، وما يفرضه النظام العالمي خارجيًا.
ويبقى السؤال رغم ذلك هو ما تلوكه ألسنة العوام: ماذا نتوقع من دونالد ترامب؟
ليس هناك الكثير الذي نعرفه عن ترامب كقائد سياسي، ولكن لو كان دونالد ترامب رجل الأعمال وتاريخه مؤشرًا على سلوكه السياسي، فنعرف أن دونالد ترامب رجل الأعمال أعلن إفلاسه أكثر من مرة بطريقة مرتبة لتغطية شركات التأمين، ومن هنا يمكن القول إن ترامب لا يبحث عن حلول عاقلة للمشكلات المعقدة، الهروب عن طريق إعلان الإفلاس هو الحل بالنسبة له، فهل سيفعل الشيء ذاته عند مواجهة أول أزمة عالمية؟ لو كان ترامب الاقتصادي هو ذات ترامب السياسي، فإن الهروب من الأزمات لا مواجهتها سيكون أسلوبه.
أما فيما يخص الشرق الأوسط ومشكلاته، فهذا يعني أن ترامب سيتجنب تلك المشكلات الشرق أوسطية المزمنة، مثل سوريا وفلسطين والعراق واليمن والنووي الإيراني، لأنه لا يستطيع أن يعلن إفلاسه في أول أيام رئاسته. ما يجب أن يتوقعه العرب هو إدارة الصراعات في منطقتنا وليس حلها لمدة أربع سنوات مقبلة، كثير من الكلام ولا حلول.
وكما توقعت على صفحات هذه الجريدة فوز ترامب قبلها بيوم وصدق حدسي، أظن أن توقعي للحالة الترامبية في السياسة الدولية سيكون قريبًا من الحقيقة أيضًا.

الأحد، 8 أبريل 2012

ماذا يعني ترشح عمر سليمان لرئاسة مصر؟



سألني كثيرون عن موقفي من ترشح عمر سليمان، رئيس المخابرات في عهد مبارك، ونائبه في اللحظة الأخيرة، والذي انضم إلى سباق رئاسة مصر في اللحظة الأخيرة أيضا، وكانت إجابتي لا لبس فيها، ليس من بين مرشحي الرئاسة في مصر من لديه عصا موسى السحرية ليبحر بمصر في المرحلة الانتقالية إلى بر الأمان، لا عمر سليمان ولا خيرت الشاطر، مرشح الإخوان المسلمين، ولا موسى نفسه، أقصد عمرو موسى. ليس المهم هو الرئيس بالنسبة لمصر اليوم التي تنزلق إلى منحدر خطير، المهم هو طاقم الإدارة الذي سيعاون أي رئيس قد ينتخبه الشعب. مصر تحتاج إلى فريق يطمئن إليه المصريون والعالم على أنه قادر على إدارة المرحلة الانتقالية، وبفريق، هنا لا أعنى الفريق أحمد شفيق، بل أعني فريق عمل يطمئن المجتمع المحلي والدولي بأن مصر في أيد أمينة. وحتى هذه اللحظة لم نعرف من أي مرشح للرئاسة من هو الفريق المعاون له، ففي حالات الأزمات يجب ألا نختار رئيسا فقط وإنما نختار فريق إدارة، أي يعلن كل رئيس محتمل عن طاقم وزارته حتى يتسنى للشعب الحكم على الكفاءة وعلى القدرة. بداية، ومن خلال خبرتنا مع إدارة الأزمات أيام الثورة في الفترة من 25 يناير (كانون الثاني) حتى تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) من العام الماضي، كان هناك عمر سليمان، وكان هناك أيضا أحمد شفيق، وأثبت الرجلان أنهما لا يستطيعان إدارة الأزمة، مما أوصل مبارك إلى يوم التنحي بالصورة المهينة التي حدثت، صورة مهينة لمبارك وللثورة أيضا. ثم جاءت المرحلة الانتقالية التي أوكل فيها مبارك الحكم للمجلس العسكري، تسعة عشر جنرالا بقيادة المشير محمد حسين طنطاوي، والذين أظهروا بما لا يدع مجالا للشك أن معيار الاختيار للمعاونين لدى هذه القيادات لا يبشر بخير، من حيث قدرتهم ومعاونيهم على إدارة الأزمات. كما أن إدارتهم لأزمتي شارع محمد محمود، وماسبيرو، إضافة إلى حادثة تعرية الفتاة في الميدان، توحي بأن الإمكانات لدى هذه القيادات محدودة في أحسن الأحوال. إذا كان هذا ما نعرفه عن سليمان وشفيق، ترى بماذا يوحي خيرت الشاطر مرشح الإخوان أو عمرو موسى أو حمدين صباحي أو أيمن نور؟

بداية، حمدين صباحي، الرئيس السابق لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، بدأ تاريخه مع المواجهة المشهورة مع الرئيس السادات، وكان يومها عبد المنعم أبو الفتوح رئيس اتحاد طلاب طب القاهرة، والشاب الذي واجه السادات بفساد معاونيه، يومها قال له السادات «اقعد يا ولد». لا غبار على الرجلين، ولكن لا نعرف عنهما الكثير من حيث قدرة أي منهما على اختيار طاقم لإدارة البلاد، وليس في كلام أي منهما ما يوحي بأنهما مدركان لمدى الورطة التي نحن فيها. فغير الحديث المطروح في إطار النميمة السياسية التي تقول إن فريقا يضم البرادعي وصباحي وأبو الفتوح سيكون مرشحا لقيادة مصر، أي أبو الفتوح رئيسا وله نائبان البرادعي وصباحي. البرادعي معروف عنه أنه رجل متميز وأدار أعقد المنظمات الدولية بكفاءة في فترة إدارته لوكالة الطاقة الذرية، ومع ذلك وحتى الآن لا نعرف من أي من هؤلاء من سيعاونهم، باستثناء كلام غائم عن توزير (أي أن يعين وزيرا) بعض الشباب والاستعانة بشباب الثورة. أملي أن يفلح الثلاثة في أن يطرحوا تصورات محددة وعلى رأس كل تصور لكل وزارة من يديره ويعرفه، لكن حتى هذه اللحظة تسيطر على المشهد شخصية البطل أو الفرعون الجديد القادم، دونما معرفة من سيعاون الرئيس. البرادعي يصلح أن يكون رئيسا متميزا للوزراء شريطة أن يستخدم المعايير العالمية لاختيار معاونيه، وقد يكون هذا مطمئنا لمصر والعالم بأن إدارة البلاد في المرحلة المقبلة ستكون أفضل من نظام مبارك، وأفضل من حيث الأداء من المجلس العسكري. ولكن المؤشرات حتى الآن غائمة وغائبة. ويجب أن تنصب أسئلة المصريين للمرشحين في المرحلة الانتقالية حول: من سيعاونكم في مهامكم؟ وبناء على الإجابة يختار الشعب المرشح المناسب.

أما خيرت الشاطر فتتلخص مهمته في توضيح الفارق بين حزب الحرية والعدالة والإخوان المسلمين، وماذا ستكون علاقة الرئيس بالمرشد، هل تشبه علاقة خامنئي بأحمدي نجاد في إيران؟ أي أن يكون المرشد هو القائد الأعلى والرئيس ما هو إلا أداة من أدوات المرشد؟ ليس هناك في مصر من يظن أن الفصل الوهمي بين مكتب الإرشاد وحزب الحرية والعدالة إلا واحدة من مهازل هذا الزمان؛ فخيرت الشاطر تم ترشيحه بناء على التصويت في مجلس شورى الجماعة وليس في مقرات حزب الحرية والعدالة، إذن هو مرشح الإخوان وليس مرشح الحزب. وأخيرا فيما يخص الشاطر، هناك مسألتان؛ الأولى تخص تنظيما عابرا للحدود اسمه الإخوان، نعرف أن مركزيته مصر، ولكنه تنظيم عالمي، ولا ندري أين ستكون قيادته غدا؟ ومن الذي سيحرك الشاطر؟ وبناء على أي أجندة؟ هل هي أجندة إخوان لندن أم الأردن أم ألمانيا؟ مصر تريد رئيسا مصريا من حزب مصري وليس رئيسا مختارا من تنظيم عالمي.

رغم أنه ليس لدي شك في أن المجلس العسكري سيدير الانتخابات الرئاسية بذات الطريقة التي أدار بها انتخابات مجلسي الشعب والشورى، والتي شارك في انتخابات الشورى فيها ما يزيد على 6 في المائة من المسجلين للانتخابات، انتخابات حصل فيها بعض النواب على عدد أصوات أكبر من تلك المسجلة بكل الدائرة، وحيث كان التزوير من المنبع على غرار تقسيم الانتخابات بين 50 في المائة عمال وفلاحين، وجزء منها حسب قائمة الأحزاب وجزء منها بالنظام الفردي، بنفس الطريقة التي كان يتحايل بها العنصريون الأميركان لحرمان السود من التمثيل النيابي والمعروفة في علم السياسة بالجريمانرنج أي تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة تضمن لك ما تريد من النتائج، حيث تبدو الانتخابات حرة ونزيهة من حيث التصويت ولكنها مزورة من المنبع.

القضية ليست نقد ما حدث، بل إمكانية أن يكون ما هو قادم أفضل، وحتى هذه اللحظة يغرق المصريون في شخصية مرشح الرئاسة، وليس طاقم إدارة البلاد في فترة حرجة. المجلس العسكري آثر السلامة ولم يحاكم أيا من رموز نظام مبارك، وقرر أن يترك الأمر لمن سيأتي بعده، ومن سيأتي بعد المجلس العسكري لديه مهام كبرى لإصلاح اقتصاد تم نهبه علنا وفي وضح النهار وبالمليارات، إلى نظام تعليمي لم يخرج سوى عقلية العبيد التي سادت فترة حكم الديكتاتوريات الثلاث في عهد مبارك والسادات وعبد الناصر.

أما نكتة الموسم فالرئيس القادم لمصر لا يعرف حدود مهام وظيفته؛ لأن الدستور الذي يحدد تلك المهام لم يكتب بعد، أي أن المرشحين يبحثون عن منصب لا يعرفون ما هو. مرة أخرى لن ينقذ مصر لا عمر سليمان ولا الشاطر أو عصى موسى، مصر تحتاج إلى طاقم إدارة كفء، تحتاج لرجال ونساء أكفاء، وهذا ما يجب أن ينشغل به المصريون، وليس شخص الرئيس.

الثلاثاء، 6 مارس 2012

جماعة لن نركع


مؤشرات السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة مخيفة. كنت في القاهرة يوم 10 فبراير (شباط) 2012، عندما أعلن مانشيت «الأهرام» أن «مصر لن تركع أبدا» في ردة فعل وطنية محمومة سادت صحف القاهرة في قضية التمويل الأجنبي والتي كانت مصر قد منعت بسببها مواطنين أميركيين من السفر بسبب نشاطهم في الترويج للديمقراطية في مصر «بدون تصريح» كما ادعت الحكومة المصرية ممثلة برئيس وزرائها كمال الجنزوري ووزيرة التعاون الدولي ومفجرة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني فايزه أبو النجا. وكانت في أجواء القاهرة رائحة تذكر بما قاله عمرو موسى بعد زيارته لإسرائيل عام 1995 كوزير للخارجية عندما رفض «بعنترية» توقيع مصر على تجديد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلا إذا وقعت إسرائيل.

كنت على موعد مع الصديق سليمان جودة لتسجيل حوار معه في برنامجه التلفزيوني «خط أحمر» حول العلاقات المصرية الأميركية في ضوء قضية التمويل الأجنبي وفي ضوء زيارة رئيس الأركان الأميركي لمصر في جو مشحون بعد عدم سماح السلطات المصرية للأميركيين بالسفر قبل أن يلقوا جزاءهم العادل في المحكمة.

قلت لسليمان يومها إن مصر ستتراجع في موقفها في هذه القضية كما تراجعت من قبل في موضوع التوقيع على معاهدة عدم الانتشار، وموقف عمرو موسى الذي كافأه عليه شعبان عبد الرحيم «بحب عمرو موسى وبكره إسرائيل» كجائزة لموقفه.

ولكن ذلك الموقف «العنتري» كلف مصر الكثير من مصداقيتها في الخارج، وأيامها لم تكن التكلفة في الداخل مهمة، حيث كان إعلام النظام الديكتاتوري قادرا على تسويق أي شيء.

فحتى هزيمة فاروق حسني في المنافسة على رئاسة اليونيسكو استطاع النظام أن يروج لها على أن الرجل ضحية مؤامرة إسرائيلية وليس لأن اليونيسكو لن تقبل رجلا كان وزيرا لأكثر من عشرين عاما في واحدة من أهم الدول في رابطة الديكتاتوريين في العالم. قلت للصديق جودة إن «جماعة لن نركع» ستتراجع هذه المرة كما تراجع موسى من قبل، وذكرت له أنني شممت رائحة تراجع عمرو موسى ليس يوم تجديد معاهدة عدم الانتشار بعدها بشهور، بل قبل أن يترك إسرائيل في تلك الزيارة، فيومها رفض موسى أن يتضمن برنامج زيارته زيارة متحف الهولوكوست، ولكن بعد أن ضجت الصحافة الإسرائيلية بهذا الموضوع تراجع صاحبنا وزار المكان، وكانت تلك الحركة بالنسبة لي المفتاح للموقف المصري.

رائحة الأمر كرائحة موضوع موسى، ولكن هذه المرة سيكون الثمن فقدان المصداقية في الخارج وظهور الحكومة على أنها حكومة «كذابين» في الداخل وهذا سيعقد الأمر كثيرا، تآكل في الشرعية والمصداقية في الداخل والخارج معا.

المهم في هذا الجدال هو أن نفهم مستقبل مصر في ضوء استمرار البحث عن عدو خارجي كمرض عضال أصاب الجسد السياسي المصري وتشعب فيه كما السرطان منذ أكثر من ستين عاما، وكأن المصري لا يمكن أن يعيش إلا بوجود هذا العدو الخارجي، وهذا العدو الخارجي هو الذي يجعل المصريين راغبين طواعية في تسليم أمرهم ودفة البلاد وقيادتها إلى «جماعة لن نركع» التي ركعت كثيرا وانتكست أكثر، وأخذت مصر من حرب في اليمن إلى هزيمة نكراء في 67 وأفقرت الإنسان المصري وجهلته للدرجة التي أصبح فيها مستوى دخل الفرد في مصر ومن يقفون تحت خط الفقر من الدول الأسوأ في العالم، وكل ذلك بفضل جماعة «لن نركع».

كنا نتصور أن مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) ستتغير وتتبنى الشفافية والوضوح في القضايا الداخلية والخارجية، وتتبنى مواقف عقلانية راشدة تأخذ في الاعتبار مستقبل مصر كوطن وما ينفع المواطن كأساس للسياستين الخارجية والداخلية، ولكن الجميع ربما صدم بظهور جماعة «لن نركع» مرة أخرى وتسيدها للمشهد السياسي المصري بعد الثورة، فأي ثورة تلك التي لم تقلب فيها التربة ولم يتغير بعدها مانشيت صحيفة أو كلمة في برنامج تلفزيوني عما كان عليه أيام نظام مبارك من قبل.

قضية التمويل الأجنبي في مصر معقدة، فالأميركان الذين يعملون في مصر في هذا الإطار هم يعملون إما في المعهد الديمقراطي المرتبط بالحزب الديمقراطي أو في المعهد الجمهوري التابع للحزب الجمهوري. وهذان الحزبان، كما يعلم الجميع، هما الحزبان الرئيسيان اللذان يتشكل منهما أعضاء الكونغرس والرئيس، ومصر بموقفها هذا لا تستعدي جناحا في أميركا وإنما تستعدي الرئيس والكونغرس والمجتمع الأميركي برمته في جو رئاسي انتخابي محموم، حيث كان من الممكن جدا «شيطنة» مصر لو تعقدت قضية سجن الأميركيين في القاهرة واستخدامها في هذا السباق الانتخابي المسعور.

ومن حق مصر أن تستعدي من تشاء ولكن الأهم أن تكون هي مدركة ومستعدة لدفع ثمن تلك العداوة. طبعا لم تناقش رئاسة الوزراء في مصر ولا الوزيرة فايزة أبو النجا قضية التمويل العربي للإخوان المسلمين في مصر أو للجماعات السلفية، فقط اختارت جماعة «لن نركع» الأميركان لأن أي موقف ضد أميركا مضمونة نتائجه في الداخل. أي إن الشعب سيلتف حول القيادة كما كان الحال في السابق. ولكن على ما يبدو أن الثورة غيرت مزاج الشعب ولم تجد فايزة أبو النجا التأييد الكافي، ولكنها سوف تدفع ثمنا سياسيا لمغادرة الأميركيين المدعى عليهم بخرق القانون المصري في طائرة أميركية خارج مصر، وكذلك سوف تدفع ثمنا لضغط الحكومة على السلطة القضائية التي أدت إلى تنحي القضاة عن النظر في القضية تحت ضغط سياسي.

تراجع عمرو موسى في السابق في قضية عدم انتشار الأسلحة النووية، واليوم تتراجع حكومة الجنزوري في قضية التمويل الأجنبي. والتراجع ليس لأن هناك صفقة قيمتها خمسون مليار جنيه مصري حصلت عليها مصر نتيجة للإفراج عن الأميركيين وتركهم يغادرون البلاد كما عنونت «الأهرام» قبل الأمس نقلا عن مصدر مسؤول. بالطبع ليس هناك عاقل يصدق أن صفقة بخمسين مليار جنيه يعقدها الأميركان مع المجلس العسكري ولا يعلم بها الكونغرس، ومن أين تأتي الحكومة الأميركية بهذه الأموال من دون موافقة الكونغرس. طبعا الصحافة عندنا لا يمكنها أن تتخيل ما لا تعرفه، فكما تحدث الصفقات في الظلام في مصر لا بد أنها كذلك في كل الدنيا. نقطتان أساسيتان هنا في هذا الخبر الصحافي لا بد من التوقف عندهما، الأولى هي أن المصدر لا يمكن أن يسمى مسؤولا إذا كان يكذب بهذه البجاحة، والنقطة الثانية هي الصحافي الذي تعود أن يتلقى المعلومات وينشرها كما هي من دون تحقيق، وهذه مأساة أخرى في صحافة مصر بعد الثورة.

استمرار سيطرة جماعة «لن نركع» على المشهد السياسي المصري مستغلة وجود ثقافة سياسية مصرية لا تستطيع أن تعيش من دون عدو خارجي، هو مؤشر خطير على اتجاه مصر في سياستها الخارجية بعد الثورة. ففي السباق على احتكار الوطنية المصرية بين الجماعات المختلفة سوف تكون السياسة الخارجية المصرية عاطفية وبردات فعل تهدف إلى تجييش جبهة داخلية لمصلحة فريق دون غيره في مصر. وبالتالي سوف تكون هذه السياسة وتخبطها ليست مصدر قلق للمصريين وحدهم فحسب، بل سبب قلق للإقليم بأكمله، وقد تجر مصر إلى مشاكل غير محسوبة.

في تاريخ مصر القريب، قرر جمال عبد الناصر طرد وحدات المراقبة الدولية في العريش «كتهويش» لإسرائيل بأنه مقدم على حرب قبل أن يجهز نفسه أو تعود قواته من اليمن، فقررت إسرائيل أن تستغل هذا «التهويش» لتكسب شرعية دولية لحرب كانت تخطط ومستعدة لها، أخطأ عبد الناصر التقدير وهزمت مصر في عام 1967 هزيمة لم تتعاف منها حتى الآن وليس من العدل طبعا تحميل كل مآسي مصر على كتفي عبد الناصر، فاليابان ضربت بالقنابل النووية وحرقت مدنها ومع ذلك قامت من رمادها دولة متقدمة تنافس الأمم. ولكن النقطة التي أردت التركيز عليها هنا، استخدام السياسة الخارجية و«بتهويش بلدي» للحصول على مزيد من الشرعية في الداخل من دون حساب ما يعرف في أسس العلوم السياسية بــ «التبعات غير المحسوبة للأفعال السياسية».

مصر الآن دخلت هذا النوع من السلوك السياسي، سياسة خارجية قائمة على تسرع عاطفي من أجل شعبية رخيصة، ستكلف مصر وتكلف الجوار، فعلى المقيمين خارجها ربط الأحزمة ومراعاة فروق التوقيت.


 

مأمون فندى Copyright © 2009 Community is Designed by Sacha Blogger Template

CSS done by Link building

تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة